فصل: خلاف علي بن زكرياء بجبل الهساكرة ونكبته

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  مسير السلطان أبي العباس من سبتة لطلب ملكه

بفاس ونهوض ابن ماساي لدفاعه ورجوعه منهزماً لما استولى السلطان أبو العباس على سبتة وتم له ملكها اعتزم على المسير لطلب ملكه بفاس‏.‏وأغراه ابن أحمر بذلك ووعده بالمداد بما كان من مداخلة ابن ماساي لجماعة من بطانته في أن يقتلوه ويملكوا الرئيس الأبكم‏.‏يقال إن الذي داخله في ذلك من بطانة ابن الأحمر يوسف بن مسعود البلنسي ومحمد ابن الوزير أبي القاسم بن الحكيم الرندي‏.‏وشعر بهم السلطان ابن الأحمر وهو يومئذ على جبل الفتح يطالع أمور السلطان أبي العباس فقتلهم جميعاً وأخوالهم‏.‏ويقال إن ذلك كان بسعاية القائم على دولته مولاه خالد كان يغص بهم ويعاودهم فاحتال عليهم بهذه وتمت سعايته بهم فاستشاط ابن الأحمر غضباً على ابن ماساي‏.‏وبعث إلى السلطان أبي العباس يستنفره للرحلة إلى طلب ملكه فاستخلف على سبتة رخو ابن الزعيم المكدودي عاملها من قبل كما مر‏.‏وصار إلى طنجة وعاملها من قبل الواثق صالح بن حمو الياباني ومعه بها الرئيس الأبكم من قبل العساكر فحاصرها أياماً وامتنعت عليه فجمر عليها عسكراً وسار عنها إلى أصيلاً فدخلت في دعوته وملكها‏.‏ونهض الوزير ابن فارس في العساكر بعد أن استخلف أخاه يعيش على دار الملك وسار‏.‏ولحقت مقدمته باصيلاً ففارقها السلطان أبو العباس وصعد إلى جبل الصفيحة فاعتصم به‏.‏وجاء الوزير ابن ماساي فتقدم إلى حصاره بالجبل وجمع عليه رماة الرجل من الأندلس الذين كانوا بطنجة‏.‏وأقام يحاصره بالصفيحة شهرين‏.‏وكان يوسف بن علي بن غانم شيخ أولاد حسين من عرب المعقل مخالفاً على الوزير مسعود وداعية للسلطان أبي العباس وشيعة له وكان يراسل ابن الأحمر في شأنه‏.‏فلما سمع باستيلائه على سبتة وإقباله على فاس جمع أشياعه من العرب ودخل إلى بلاد المغرب ونزل ما بين فاس ومكناسة‏.‏وشن الغارات على البسائط واكتسحها‏.‏وأرجف الرعايا وأجفلوا إلى الحصون‏.‏وكان ونزمار بن عريف ولي الدولة شيعة للسلطان وكان يكاتبه وهو بالأندلس ويكاتب ابن الأحمر في شأنه‏.‏فلما اشتد الحصار على السلطان بالصفيحة بعث ابنه أبا فارس إلى ونزمار بمكانه من نواحي تازى‏.‏وبعث معه سيور بن يحياتن بن عمرة فقام ونزمار بدعوته وسار به إلى مدينة نازى وعاملها سليمان بن بوحياة الفودوي من قرابة الوزير ابن ماساي‏.‏فلما نزل به أبو فارس ابن السلطان بادر إلى طاعته وأمكنه من البلد فاستولى عليها واستوزر سليمان هذا‏.‏وسار إلى صفروي ومعه ونزمار للإجتماع بعرب المعقل واصفاقهم على حصار فاس‏.‏وكان محمد بن الدمعة عاملاً على ورغة فبعث إليه السلطان عسكراً مع العباس بن المقداد ابن أخت الوزير محمد بن عثمان فقتلوه وجاءوا برأسه‏.‏ونجم الخلاف على يعيش نائب البلد الجديد من كل جهة وطير يعيش بن ماساي النائب بدار الملك بالخبر بذلك كله إلى أخيه بمكانه من حصار السلطان بالصفيحة فانفضت عنه العساكر وأجفل راجعاً إلى فاس‏.‏وسار السلطان في اتباعه‏.‏ودخل في طاعته عامل مكناسة الخير مولى الأمير عبد الرحمن‏.‏ولقيه يوسف بن علي بن غانم ومن معه من أحياء العرب وساروا جميعاً إلى فاس‏.‏وكان أبو فارس ابن السلطان قد رحل من تازى إلى صفروي للقاء أبيه فاعترضه الوزير ابن ماساي في العساكر ورجا أن يفله‏.‏ولقيه ببني بهلول فنزع أهل العسكر إلى أبي فارس‏.‏ورجع الوزير منهزماً ودخل البلد الجديد فاعتصم بها‏.‏وبلغ خبره إلى السلطان وهو بمكناسة فارتحل يغذ السير إلى فاس‏.‏وسار ابنه أبو فارس للقائه فلقيه على وادي النجا‏.‏وصبحوا البلد الجديد فنزلوا عليها بجموعهم‏.‏وقد اعتصم بها الوزير في أوليائه وبطانته ومعه يغمراسن بن محمد الثنالقني ورهائن بني مرين الذين استرهنهم عند مسيره معهم للقاء السلطان بأصيلا‏.‏والله أعلم‏.‏

  ظهور دعوة السلطان أبي العباس في مراكش واستيلاء أوليائه عليها

كان الوزير مسعود بن ماساي قد ولى على مراكش وأعمال المصامدة أخاه عمر ابن رحو وكانت البلاد منتظمة في طاعته‏.‏فلما بلغ الخبربوصول السلطان إلى سبتة واستيلائه عليها تطاولت رؤوس أوليائه إلى إظهار دعوته بجبل الهساكرة وشيخهم علي بن زكريا‏.‏وبعث الوزير مسعود من مكانه بحصار السلطان بالصفيحة في إمداده بالعساكر من مراكش فخف إليه مخلوف بن سليمان الوارتني صاحب الأعمال ما بين مراكش والسوس وقعد الباقون عن قصده وتفرقوا‏.‏وصعد أبو ثابت حافد علي بن عمر إلي جبل الهساكرة ومعه يوسف بن يعقوب بن علي الصبيحي فاستمد من علي بن زكرياء ورجع إلى مراكش مجلباً على عمر بن رخو فناوشه القتال ساعة‏.‏ثم غلبه على البلد وملكها من يده ونزل بقصبة الملك‏.‏وحبس عمر بن رحو بها وكتب إلى السلطان بذلك وهو بمكناسة متوجهاً إلى فاس فكتب إليه بأن يصله بعساكر مراكش لحصار دار الملك فجمع العساكر واستخلف على قصبة مراكش بعض بني عمه ولحق بالسلطان وأقام معه في حصار البلد الجديد‏.‏والله أعلم‏.‏

  ولاية المنتصر ابن السلطان على مراكش واستقلاله بها

كان السلطان أبو العباس حين ملك المغرب بعث ابنه محمد المنتصر في البحر إلى سلا واستوزر له عبد الحق بن الحسن بن يوسف فوصل إلى سلا وأقام بها‏.‏ومر به زروق بن توقريطت راجعاً من دكالة‏.‏وقد بلغة نزول السلطان على البلد الجديد فتلطف في استدعائه ثم قبض عليه وبعث به إلى أبيه مقيداً فأودعه السجن وقتل بعد ذلك في محبسه‏.‏ثم بعث السلطان إلى ابنه المنتصر بولاية مراكش وأن يسير إليها فلما وصل امتنع النائب بالقصبة من أن يمكنه من البلد إلا أن يدخل إليه منفرداً عن أصحابه وبطانته‏.‏وكان علي بن عبد العزيز شيخ هنتاتة مداخلاً لنائب القصبة فدس لعبد الحق وزير المنتصر أن النائب قد هم بقتله‏.‏وحينئذ تمكن المنتصر من القصبة فأجفل بالمنتصر وصعد إلى جبل هنتاتة‏.‏وطير بالخبر إلى السلطان فتغير لأبي ثابت وأمره بأن يكاتب نائبه بتمكين ابنه من القصبة‏.‏واستوزر له سعيد بن عبدون وبعثه بالكتاب وعزل عبد الحق عن وزارة ابنه‏.‏واستدعاه إلى فاس فوصل سعيد بن عبدون إلى مراكش ودفع إلى النائب بالقصبة كتاب مستخلفه فأجاب إلى الامتثال وأمكنه من القصبة واعتزل منها فدخلها‏.‏وبعث عن المنتصر ابن السلطان واستولوا عليها وقبضوا على نائب عامر الذي كان بها وسائر شيعته وبطانته‏.‏وامتحنوهم واستصفوهم إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏حصار البلد الجديد وفتحها ونكبة الوزير ابن ماساي ومقتله لما نزل السلطان على البلد الجديد واجتمع إليه سائر قبيله وأوليائه وبطانته داخل الوزير مسعود الحنق على وجوه بني مرين لانتباذهم عنه‏.‏وهم بقتل أبنائهم الذين استرهنهم على الوفاء له فلاطفه يغمراسن السالفي في المنع من ذلك فأقصر عنه‏.‏وضيق السلطان مخنقه بالحصار ثلاث أشهر حتى دعا إلى النزول والطاعة فبعث السلطان إليه ولي الدولة ونزمار بن عريف وخالصته محمد بن يوسف‏.‏بن علال فعقد معهم الأمان لنفسه ولمن معه على أن يستمر على الوزارة ويبعث بسلطانه الواثق إلى الأندلس‏.‏واستحلفهم على ذلك وخرج معهم إلى السلطان فدخل السلطان البلد الجديد خامس رمضان سنة تسع وثمانين لثلاثة أعوام وأربعة أشهر من خلعه‏.‏ولحين دخوله قبض على الواثق وبعث به معتقلاً إلى طنجة حتى قتل بها بعد ذلك‏.‏ولما استوى على أمره قبض على الوزير مسعود ليومين من دخوله وعلى إخوانه وحاشيته‏.‏وامتحنهم جميعاً فهلكوا في العذاب‏.‏ثم سلط على مسعود من العذاب والانتقام ما لا يعبر عنه‏.‏ونقم عليه ما فعله بدور بني مرين النازعين إلى السلطان بأنه كان متى هرب منه أحد منهم يعمد إلى بيوته فينهبها ويخربها فأمر السلطان بعقابه في أطلالها فكان يوتى به إلى كل بيت منها فيضرب عشرين سوطاً إلى أن أفحش فيه العذاب وتجاوز الحد‏.‏ثم أمر به فقطع فهلك عند قطع الثانية من الأربعة فذهب مثلاً في الآخرين‏.‏وزارة محمد بن هلال كان أبوه يوسف بن هلال من نشأة الدولة وصنيعة السلطان أبي الحسن‏.‏وربي في داره‏.‏ولما ضخم أمره سما به إلى ولاية الأعمال فولاه على درعة فأثرى وأنجب وباهى أولياء الدولة‏.‏ثم ولاه السلطان أبو عنان أمر مطبخه ومائدته وضيوفه واستكفى في ذلك وولاه أخوه أبو سالم بعده كذلك‏.‏ثم بعثه على سجلماسة فعانى بها من أمور العرب مشقة‏.‏وعزله عنها فهلك بفاس‏.‏وكان له جماعة عن ولد نشأوا في ظل هذه النعمة وحدثت النجابة بمحمد منهم‏.‏فلما ولي السلطان أبو العباس استعمله في أمور الضياف والمائدة كما كانت لأبيه‏.‏ثم رقاه إلى المخالصة وخلطه بنفسه‏.‏فلما خلع السلطان واستولى الوزير ابن ماساي على المغرب وكانت بينه وبين أخيه يعيش بن ماساي إحن قديمة فسكن لصولتهم‏.‏حتى إذا اضطرمت نار الفتنة بالمغرب وأجلب عرب المعقل في الخلاف استوحش محمد هذا فلحق بأحيائهم مع زروق بن توقريطت كما مر ذكره‏.‏ونزلا على يوسف بن علي بن غانم شيخ أولاد حسين وأقاما معه في خلافه‏.‏حتى إذا أجاز السلطان الواثق من الأندلس ووصل مع أصحابه إلى جبل زرهون وأظهروا الخلاف على الوزير ابن ماساي بادر محمد هذا وزروق إلى السلطان ودخلا في طاعته متبرئين من النفاق الذي حملهم عليه عداوة الوزير ابن ماساي‏.‏فما كان إلا أن انعقد الصلح بين الواثق وابن ماساي وسار به وبأصحابه إلى فاس‏.‏وحصلوا في قبضة ابن ماساي فعف لهم عما كان منهم واستعملهم في معهود ولايتهم ثم جاء الخبر بإجازة السلطان أبي العباس إلى سبتة فاضطرب محمد بن يوسف وذكر لخالصة السلطان ومنافرة بني ماساي فأجمع أمره ولحق بسبتة فتلقاه السلطان بالكرامة‏.‏وير بمقدمه ودفعه إلى القيام بأمر دولته فلم يزل متصرفاً بين يديه إلى أن نزل على البلد الجديد‏.‏ولأيام من حصارها خلع عليه للوزارة ودفعه إليها فقام بها أحسن قيام‏.‏ثم كان الفتح وانتظمت أمور الدولة ومحمد هذا يصرف الوزارمة على ظهور محمد بن السلطان عبد الحليم بسجلماسة قد تقدم لنا عند ذكر السلطان عبد الحليم ابن السلطان أبي علي وكان يدعى حلى كيف بايع له بنو مرين وأجلبوا به على عمر بن عبد الله سنة ثلاث وستين أيام بيعته للسلطان أبي عمر ابن السلطان أبي الحسن‏.‏وحاصروا معه البلد الجديد حتى خرج لدفاعهم وقاتلهم فانهزموا وافترقوا‏.‏ولحق السلطان عبد الحليم بتازى وأخوه عبد المؤمن بمكناسة ومعه ابن أخيهما عبد الرحمن بن أبي يفلوسن‏.‏ثم بايع الوزير عمر بن عبد الله لمحمد بن أبي عبد الرحمن ابن السلطان أبي الحسن‏.‏واستبدل به من أبي عمر لما كان بنو مرين يرمونه به من الجنون والوسوسة‏.‏فاستدعى محمد بن أبي عبد الرحمن من مطرح اغترابه بإشبيلية وبايع له‏.‏وخرج في العساكر لمدافعه عبد المؤمن وعبد الرحمن عن مكناسة فلقيهما وهزمهما ولحقا بالسلطان عبد الحليم بتازى وساروا جميعاً إلى سجلماسة فاستقروا فيها والسلطان لعبد الحليم‏.‏وقد تقدم خبر ذلك كله في أماكنه‏.‏ثم كان الخلاف بين عرب المعقل أولاد حسين والأحلاف‏.‏وخرج عبد المؤمن للإصلاح بينهم فبايع له أولاد حسين ونصبوه كرهاً للملك‏.‏وخرج السلطان عبد الحليم إليهم في جموع الأحلاف فقاتلوه وهزموه‏.‏وقتلوا كبار قومه كان منهم يحيى بن رحو بن تاشفين بن معطي شيخ بني تيربيغين وكبير دولة بني مرين أجلت المعركة عن قتله‏.‏ ودخل عبد المؤمن البلد منفرداً بالملك‏.‏ وصرف السلطان أخاه عبد الحليم إلى المشرق لقضاء فرضه لرغبته في ذلك فسار على طريق القفر مسلك الحاج من التكرور إلى أن وصل القاهرة والمستبد بها يومئذ يلبغا الخاصكي على الأشرف شعبان بن حسين من أسباط الملك الناصر محمد بن قلاوون فأكرم وفادته ووسع نزله وجرايته وأدر لحاشيته الأرزاق‏.‏ ثم أعانه على طريقه إلى الحج بالأزواد والآنية والظهر من الكراع والخف‏.‏ ولما انصرف من حجه زوده لسفر المغرب‏.‏ وهلك بتروجه سنة سبع وستين‏.‏ورجع حاشيته إلى المغرب بحرمه وولده‏.‏وكان ترك محمداً هذا رضيعاً فشب متقلباً بين الدول من ملك إلى آخر منتبذاً عن قومه لغيرة بني السلطان أبي الحسن من بني عمهم السلطان أبي علي‏.‏وكان أكثر ما يكون مقامه عند أبي حمو سلطان بني عبد الواد بتلمسان لما يروم به من الأجلاب على المغرب ودفع عادية بني مرين عنهم‏.‏فلما وقع بالمغرب من انتقاض عرب المعقل على الوزير مسعود بن ماساي سنة تسع وثمانين ما وقع واستمروا على الخلاف عليه انتهز أبو حمو الفرصة وبعث بمحمد بن علي هذا إلى المعقل ليجلبوا به على المغرب ويمزقوا من ملكه ما قدروا عليه فلحق بأحيائهم ونزل على الأحلاف الذين هم أمس رحماً بسجلماسة وأقرب موطناً إليها‏.‏وكان الوزير مسعود بن ماساي قد ولي عليها من قرابته علي بن إبراهيم بن عبو بن ماساي‏.‏فلما ظهر عليه السلطان أبو العباس وضيق مخنقه بالبلد الجديد دس إلى الأحلاف وإلى قريبه علي بن إبراهيم أن ينصبوا محمد ابن السلطان عبد الحليم يملكوه سجلماسة ويجلبوا به على تخوم المغرب ليأخذوا بحجزة السلطان أبي العباس عنه وينفسوا من خناقه ففعلوا ذلك‏.‏ودخل محمد إلى سجلماسة فملكها وقام علي بن إبراهيم بوزارته حتى إذا استولى السلطان أبو العباس على البلد الجديد وفتك بالوزير مسعود بن ماساي وبإخوته وسائر قرابته اضطرب علي بن إبراهيم وفسد ما بينه وبين سلطانه محمد فخرج عنه من سجلماسة وعاد إلى أبي حمو سلطان تلمسان كما كان‏.‏ثم زادت هواجس علي بن إبراهيم وارتيابه فخرج عن سجلماسة وتركها ولحق بأحياء العرب‏.‏وسارت طائفة منهم معه إلى أن أبلغوه مأمنه‏.‏ونزل على السلطان أبي حمو إلى أن هلك فسار إلى تونس وحضر وفاة السلطان أبي العباس بها سنة ست وتسعين‏.‏ ولحق محمد ابن السلطان عبد الحليم بعد مهلك أبي حمو بتونس‏.‏ ثم ارتحل بعدد وفاة السلطان أبي العباس إلى المشرق في سبيل جولة ومطاوعة واغتراب والله تعالى أعلم‏.‏لما استقل السلطان بملكه واقتعد سريره صرف نظره إلى أولياء تلك الدولة ومن يرتاب منه‏.‏وكان محمد بن أبي عمرو وقدتقدم ذكره وأوليته من جملة خواصه وندمائه‏.‏ وكان السلطان يقسم له من عنايته وجميل نظره ويرفعه على نظرائه‏.‏ فلما ولى السلطان موسى نزعت به إليه نوازع المخالصة لأبيه من السلطان أي عنان‏.‏ فقد كان أبوه من أعز بطانته كما مر فاستخلصه السلطان موسى للشورى ورفعه على منابر أهل الدولة‏.‏ وجعل إليه كتابه علامته على المراسم السلطانية كما كان لأبيه‏.‏ وكان يفاوضه في مهماته ويرجع إليه في أموره حتى غص به أهل الدولة ونمي عنه للوزير مسعود بن ماساي أنه يداخل السلطان في نكبته‏.‏وربما سعى عند سلطانه في جماعة من بطانة السلطان أحمد فأتى عليهم النكال والقتل لفلتات كانت بينهم وبينه في مجالس المنادمة عند السلطان حقدها لهم‏.‏ فلما ظفر بالحظ من سطات سعى بهم فقتلهم‏.‏وكان القاضي أبو إسحاق إبراهيم اليزناسي من بطانة سلطانه وكان يحضر مع ندمائه فحقد له ابن أبي عمرو بعض الكلمات‏.‏ وأغرى به سلطانه فضربه وأطافه وجاء بها شنعاء غريبة في القبح‏.‏وسفر عن سلطانه إلى الأندلس وكان يمر بمنزل السلطان هذا ومكان اعتقاله‏.‏ وربما تلقاه فلم يلم بتحية ولا يوجب له حقاً فاحفظ ذلك السلطان‏.‏ ولما فرغ من أمر ابن ماساي قبض على ابن أبي عمرو هذا وأودعه السجن‏.‏ ثم امتحنه بعد أيام إلى أن هلك ضرباً بالسياط عفا الله عنه‏.‏وحمل إلى داره‏.‏ وبينما أهله يجهزونه إلى قبره إذا بالسلطان قد أمر بأن يسحب في نواحي البلد إبلاغاً في التنكيل فحمل من نعشه وقد ربط حبل من رجله وسحب في سائر أنحاء المدينة‏.‏ثم ألقي على بعض الكثبان من أطرافها وأصبح مثلاً في الآخرين‏.‏ ثم قبض السلطان على حركات بن حسون النياطي وكان مخباً في الفتنة موضعاً‏.‏وكان العرب المخالفون من المعقل ولما أجاز السلطان إلى سبتة وحركات هذا بتادلا أرادوه على طاعة السلطان فامتنع أولاً‏.‏ثم أكرهوه وجاءوا به إلى السلطان فطوى له على ذلك حتى استقام أمره‏.‏ وملك البلد الجديد فقبض عليه وامتحنه إلى أن هلك‏.‏ والله وارث الأرض ومن عليها‏.‏

  خلاف علي بن زكرياء بجبل الهساكرة ونكبته

لما ملك السلطان البلد الجديد واستوى على ملكه وفد عليه علي بن زكرياء شيخ هسكورة مستصباً بما قدم من سوابقه‏.‏وقد كان حضر معه حصار البلد الجديد واستدعاه فجاء بقومه وعساكر المصامدة‏.‏وأبلى في حصارها فرعى السلطان سوابقه وولاه الولاية الكبرى على المصامدة على عادة الدولة في ذلك‏.‏ ثم وفد بعده محمد بن إبراهيم المبرازي من شيوخ المصامدة وكانت له ذمة صهر مع الوزير محمد بن يوسف بن علال على أخته فولاه السلطان مكان علي بن زكرياء فغضب لها علي واستشاط وبادر إلى الانتقاض والخلاف‏.‏ونصب بعض القرابة من بني عبد الحق فجهز إليه السلطان العساكر مع محمد بن يوسف بن علال وصالح بن حمو الياباني‏.‏وأمر صاحب درعة وهو يومئذ عمر بن عبد المؤمن بن عمر أن ينهد إليه بعساكر درعة من جهة القبلة فساروا إليه وحاصروه في جبلة‏.‏ وجاولوه مرات ينهزم في جميعها حتى غلبوه على جبلة‏.‏ وسار إلى إبراهيم بن عمران الصناكي المجاور له في جبلة فاستذم به‏.‏ وخشي إبراهيم معرة الخلاف والغلب ورغبه الوزير محمد بن يوسف بمال بذله له فأمكنه منه وقبض عليه الوزير وجاء به إلى فاس فأدخله في يوم مشهود وشفره واعتقل‏.‏ فلم يزل في الاعتقال إلى أن هلك السلطان أبو العباس‏.‏ وارتاب به أهل الدولة بعده فقتلوه كما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏وفادة أبي تاشفين علي السلطان أبي العباس صريخا علي أبيه ومسيره بالعساكر ومقتل أبيه السلطان أبي حمو كان أبو تاشفين ابن السلطان أبي حمو قد وثب على أبيه آخر ثمان وثمانين بممالأته لغيره من إخوته واعتقله بوهران‏.‏وخرج في العساكر لطلب إخوته المنتصر وأبي زيان وعمير وامتنعوا عند حصين بجبل تيطرى فحاصرهم أياماً‏.‏ثم تذكر غائلة أبيه فبعث ابنه أبا زيان في جماعة من بطانته منهم موسى ابن الوزير عمران بن موسى وعبد الله ابن جابر الخراساني فقتلوا بعض ولده بتلمسان ومضوا إليه وهو بمحبسه في وهران‏.‏فلما شعر بهم أسرف من الحصن وناس في أهل المدينة متذمماً بهم فهرعوا إليه‏.‏ وتدلى إليهم في عمامته وقد احتزم بها فأنزلوه وأحدقوا به وأجلسوه على سريره‏.‏وتولى كبر ذلك خطيب البلد ابن خزورت ولحق أبو زيان بن أبي تاشفين ناجياً إلى تلمسان‏.‏واتبعه السلطان أبو حمو ففر منها إلى أبيه‏.‏ ودخل أبو حمو تلمسان وهي طلل وأسوارها خراب فأقام فيها رسم دولته‏.‏ وبلغ الخبرإلى أبي تاشفين فأجفل من تيطرى‏.‏وأغذ السير فدخلها‏.‏ واعتصم أبوه بمأذنة المسجد فاستنزله منها وتجافى عن قتله‏.‏ ورغب إليه أبو حمو في رحلة المشرق لقضاء فرضه فأسعفه وأركبه السفين مع بعض تجار النصارى إلى الإسكندرية موكلاً به‏.‏فلما حاذى مرسى بجاية لاطف النصارى في تخلية سبيله فأسعف وملك أمره‏.‏ وبعث إلى صاحب الأمر ببجاية يستأذنه في النزول فأذن له‏.‏وسار منها إلى الجزائر واستخدم العرب واستصعب عليه أمر تلمسان فخرج إلى الصحراء‏.‏وجاء إلى تلمسان من جهة المغرب وهزم عساكر ابنه أبي تاشفين وملكها‏.‏ وخرج أبو تاشفين هارباً منها فلحق بأحياء سويد في مشاتيهم‏.‏ ودخل أبو حمو تلمسان قي رجب سنة تسعين‏.‏وقد تقدم شرح هذه الأخبار كلها مستوعبة‏.‏ ثم وفد أبو تاشفين مع محمد بن عريف شيخ سويد على السلطان أبي العباس صريخاً على أبيه ومؤملاً الكرة بإمداده فتقبله السلطان وأجمل له المواعيد‏.‏وأقام أبو تاشفين في انتظارها والوزير محمد بن يوسف بن علال يعده ويمنيه ويحلف له على الوفاء‏.‏ وبعث السلطان أبو حمو إلى السلطان ابن الأحمر لما علم من استطالته على دولة بني مرين كما مر يتوسل إليه في أن يصدهم عن صريخ أبي تاشفين وإمداده عليه فخلا ابن الأحمر في ذلك وجعلها من أهم حاجاته‏.‏وخاطب السلطان أبا العباس في أن يجهز إليه أبا تاشفين فتعلل عليه في ذلك بأنه استجار بابنه أبي فارس وأستذم به‏.‏ ولم يزل الوزير ابن علال يفتل لسلطانه ولابن الأحمر في الذروة والغارب حتى تم أمره وأنجز له السلطان بالنصر موعده‏.‏وبعث ابنه الأمير أبا فارس والوزير ابن علال في العساكر صريخين له وانتهوا إلى تازى‏.‏وبلغ الخبرإلى أبي حمو فخرج من تلمسان في عساكره واستألف أولياءه من عبد الله‏.‏ونزل بالغيران من وراء جبل بني ورنيد المطل على تلمسان وأقام هنالك متحصناً بالجبل وجاءت العيون إلى عساكر بني مرين بتازى من مكانه هو وأعرابه من الغيران فأجمعوا غزوه‏.‏وسار الوزير ابن علال وأبو تاشفين وسلكوا القفر ودليليهم سليمان بن ناجي من الأحلاف‏.‏ثم صبحوا أبا حمو ومن معه من أحياء الخراج بمكانهم من الغيران فجاولوهم ساعة ثم ولوا منهزمين وكبا بالسلطان أبي حمو فرسه فسقط وأدركه بعض أصحاب أبي تاشفين فقتلوه قعصاً بالرماح وجاءوا برأسه إلى ابنه أبي تاشفين والوزير ابن علال فبعثوا به إلى السلطان وجيء بابنه عمير أسيراً فهم أخوه أبو تاشفين بقتله فمنعه بنو مرين أياماً‏.‏ ثم أمكنوه منه فقتله ودخل إلى تلمسان آخر سنة إحدى وتسعين‏.‏وخيم الوزير وعساكر بني مرين بظاهر البلد حتى دفع إليهم ما شارطهم عليه من المال‏.‏ثم قفلوا إلى المغرب وأقام أبو تاشفين بتلمسان يقيم دعوة السلطان أبي العباس صاحب المغرب ويخطب له على منابر تلمسان وأعمالها ويبعث إليه بالضريبة كل سنة كما اشترط على نفسه‏.‏وكان أبو حمو ملك تلمسان ولى ابنه أبا زيان على الجزائر‏.‏ فلما بلغه مقتل أبيه امتعض ولحق بأحياء حصين ناجياً وصريخاً‏.‏ وجاءه وفد بني عامر من زغبة يدعونه للملك فسار إليهم‏.‏وقام بدعوته شيخهم المسعود بن صغير ونهضوا جميعاً إلى تلمسان في رجب سنة اثنتين وتسعين فحاصروها أياماً‏.‏ثم سرب أبو تاشفين المال في العرب فتفرقوا عن أبي زيان‏.‏ وخرج إليه أبو تاشفين ابنه صريخاً إلى المغرب فجاءه بمدد من العسكر‏.‏ ولما انتهى إلى تاوريرت أفرج أبو زيان عن تلمسان وأجفل إلى الصحراء‏.‏ ثم أجمع رأيه على الوفادة إلى صاحب المغرب فوقد عليه صريخاً فتلقاه بالتكرمة وبر مقدمه ووعده النصر من عدوه‏.‏ وأقام عنده إلى حين مهلك أبي تاشفين‏.‏ والله أعلم‏.‏

  وفاة أبي تاشفين واستيلاء صاحب المغرب على تلمسان

لم يزل هذا الأمير أبو تاشفين مملكاً على تلمسان ومقيماً فيها لدعوة صاحب المغرب أبي العباس ابن السلطان أبي سالم ومؤدياً الضريبة التي فرضها عليه منذ ملك‏.‏وأخوه الأمير أبو زيان مقيم عند صاحب المغرب ينتظر وعمه في النصر عليه حتى تغير السلطان أبو العباس على أبي تاشفين في بعض النزعات الملوكية فأجاب داعي أبي زيان وجهزه بالعساكر لملك تلمسان‏.‏فسار لذلك منتصف سنة خمس وتسعين وانتهى إلى تازى وكان أبو تاشفين قد طرقه مرض أزمنه ثم هلك منه في رمضان من السنة‏.‏وكان القائم في دولته أحمد بن العز من صنائعهم وكان يمت إليه بخؤولة فولى بعده مكانه صبياً من أبنائه وقام بكفالته‏.‏وكان يوسف بن أبي حمو وهو ابن الزابية والياً على الجزائر من قبل أبي تاشفين فلما بلغه الخبر أغذ السير مع العرب ودخل تلمسان وقتل أحمد بن العز والصبي المكفول ابن أخيه أبى تاشفين‏.‏فلما بلغ الخبرإلى السلطان أبي العباس صاحب المغرب خرج إلى تازى وبعث من هنالك ابنه أبا فارس في العساكر ورد أبا زيان ابن أبي حمو إلى فاس ووكل به‏.‏وسار أبو فارس إلى تلمسان فملكها وأقام فيها دعوة أبيه‏.‏وتقدم وزير أبيه صالح بن حمو إلى مليانة فملكها وما بعدها من الجزائر وتدلس إلى حدود بجاية‏.‏واعتصم يوسف بن الزابية بحصون تاجحمومت‏.‏وأقام الوزير صالح يحاصره‏.‏وانقرضت دولة بني عبد الواد من المغرب الأوسط‏.‏والله غالب على أمره‏.‏

  وفاة السلطان أبي العباس صاحب المغرب

واستيلاء أبي زيان ابن أبي حمو على تلمسان والمغرب الأوسط كان السلطان أبو العباس بن أبي سالم لما وصل إلى تازى وبعث ابنه أبا فارس إلى تلمسان فملكها أقام هو بتازى يشارف أحوال ابنه ووزير صالح الذي تقدم لفتح البلاد الشرقية وكان يوسف بن علي بن غانم أمير أولاد حسين من المعقل قد حج سنة ثلاث وتسعين واتصل بملك مصر من الترك الملك الظاهر برقوق‏.‏وتقدمت إلى السلطان فيه وأخبرته بمحله من قومه فأكرم تلقيه وحمله بعد قضاء حجه هدية إلى صاحب المغرب يطرفه فيها بتحف من بضائع بلده على عادة الملوك‏.‏فلما قدم يوسف بها على السلطان أبي العباس أعظم موقعه‏.‏وجلس في مجلس حفل لعرضها والمباهاة بها‏.‏وشرع في المكافأة عليها بتجهيز الجياد والبضائع والثياب حتى استكمل من ذلك ما رضيه‏.‏واعتزم على إنفاذها مع يوسف بن علي حاملها الأول‏.‏وإنه يرسله من تازى لأيام مقامته تلك فطرقه هنالك مرض كان فيه حتفه في شهر محرم سنة ست وتسعين‏.‏واستدعوا ابنه أبا فارس من تلمسان فبايعوه بتازى وولوه مكانه ورجعوا به إلى فاس‏.‏وأطلقوا أبا زيان بن أبي حمو من الاعتقال‏.‏وبعثوا به إلى تلمسان أميراً عليها وقائماً بدعوة السلطان أبي فارس فيها فسار إليها وملكها‏.‏وكان أخوه يوسف بن الزابية قد اتصل بأحياء بني عامر يروم ملك تلمسان والاجلاب عليها فبعث إليهم أبو زيان عندما بلغه ذلك‏.‏وبذل لهم عطاء جزيلاً على أن يبعثوا به إليه فأجابوه إلى ذلك وأسلموه إلى ثقاة أبي زيان‏.‏وساروا به فاعترضهم بعض أحياء العرب ليستنقذوه منهم فبادروا بقتله وحملوا رأسه إلى أخيه أبي زيان فسكنت أحواله وذهبت الفتنة بذهابه واستقامت أمور دولته‏.‏وهم ذلك لهذا العهد‏.‏ والله غالب على أمره‏.‏وقد انتهى بنا القول في دولة بني عبد الواد من زناتة الثانية وبقي علينا خبر الرهط الذين تحيزوا منهم إلى بني مرين من أول الدولة‏.‏وهم بنو كمي من فصائل علي بن القاسم إخوة طاع الله بن علي وخبر بني كندوز أمرائهم بمراكش‏.‏فلنرجع إلى ذكر أخبارهم وبها نسوق الكلام في أخبار بني عبد الواد‏.‏والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين‏.‏